منذ الحادثة اعتاد أن يدخل من باب الشقة متجهم الوجه ، يجر قدميه بصعوبة بالغة ، يحمل كل هموم الدنيا التي تراكمت فوق كتفيه فانحنى ظهره وهو لم يكمل الخامسة والثلاثين بعد ..
 مات والده وترك الهموم تثقل كاهله ، واليوم يكاد رأسه ينفجر من كثرة التفكير ، دائما هو في حاله ، يفضِّل أن يمشي تحت الحائط ، بل داخله لو كان بإمكانه ذلك ..
 لكنهم منذ قبضوا عليه حين خروجه من العمل .. اقتادوه إلى حيث لا يدري معصوباً ، ألقوه في سيارةٍ    سوداء ، اتهموه بالتدّخلِ في أمورٍ سياسيةٍ ، وهو لا يعلم عن السياسة شيئاً ..
 مع أن الجميع يتحدثُ في السياسة ، لكنه أبداً لم ينطق بلغتها يوما ، بل لا يعرف حتى أسماء كبار الرؤساء والوزراء التي تملأ أعمالهم الخالدة في خدمة الشعوب وسائل الإعلام ضجيجاً ليل نهار – فلماذا هو بالذات يقبضون عليه ، ويلقونه في غياهب السجون ؟
انتظر طويلاً في غرفةٍ مظلمةٍ ، أخيراً حضر أحدهم، فتح الباب ، أعاد العصابة السوداء إلى عينيه ، دفعه أمامه بقسوة إلى مكتب الباشا الكبير، طرق باباً آخر ، سُمِحَ له بالدخول ...
 جذبني من قميصي ، فاصطَدَمتُ بكرسيّ من الخشب .. أمره الجالس بفَكِ عصابتي عن عينيّ .. كان الباشا يجلس على كرسيّ فاخر ، تظهر عليه الهيبة والوقار.. تفحصني جيدا ، ثم سألني في هدوءٍ وأدبٍ جم : 
-       اسمك إيه ؟
-       " حور محب "
-       اسمك يدل على إجرامك ..
-       وماذا في اسمي يا سيدي ؟
-       يصفعني بشدة على رقبتي – أولا تدري ماذا يعني اسمك هذا بالذات .. ؟
-       "حور محب " اسم فرعوني قديم ..
-       آه .. أتدري من يكون هذا الفرعون ؟
-       لا أدري .. لكن الاسم ليس جريمة..
-       إنه الفرعون العاصي يا كلب ..
-       لست كلباً .. أنا إنسان .. 
-  بالفعل أنت إنسان أقل قدراً بكثير من الكلب          "يقف ويتجه ناحيتي" .. الكلب يتصف بالوفاء ، لكنك خائن ، وقح ، متآمر ، متمرد على أسيادك ومعترض دائماً .. حيوان غبي ، بل الحيوان أفضل منك وأرقى ...
-       متمرد ومعترض .. على أي شئ ؟
-  " صفعة أخرى على وجهي ، جعلت الدماء تسيل من فمي " يتجه ليجلس على كرسيه" .. ألا تعلم عن أي شئ ، وضد من..؟
-       لا .. أقسم أني لا أعلم عمّن تتحدث ..؟
يترك كرسيه ثانيةً ، يتحرك نحوي في بطءٍ شديد واضعاً يديه خلف ظهره ، يمعن النظر إليّ ، يتفحصني جليًّا ، ثم يتحدث في استعلاءٍ قائلاً :
-  ألا يكفي أنكم تعيشون بيننا ؛ رؤوسُكم برؤوسنا .. تتنفسون نفس الهواء ، وتشربون من نفس الماء ، وتمشون على ذات الأرض التي يسير عليها السادة وأنتم عبيد ..
-       أقاطعه حانقا .. لسنا عبيداً لأحد ...
-  " يركلني بكل قوته فيوقعني على الأرض الصلبة".. بل عبيد ، من سلالة عبيد ، لقد نسيتم أنفسكم ، ولابد أن تُفيقوا من غفوتكم ، وتعلموا حدودكم ..
أنتم في الدرجات السفلى من الكون ، وستبقون هناك حتى الموت ؛ لن تتساوى الرءوس أبدا .. 
      "يلتفت في عصبية واضحة ، يزغدني بعنف في كتفي ، يستدير نحوي فاردا كفيه متعجباً بسخرية ":
فلتحمدوا ربكم أيها الرعاع الأوغاد أننا نحن الأسياد الكبار وعليَّة القوم والشرفاء .. نسمح لكم بكل ذلك ، يكفي أن لكم حقوقا مثلنا ومن المفترض أنه لا حقوق لأمثالكم ، لابد أن تقبِّلوا أيدينا وأرجلنا صباحاً مساءً .. لأننا سمحنا لكم أن تكونوا بيننا أحياءً ..
ألا تتخيل أو تدرك قيمة كرم السادة معكم .. فأنتم  تمارسون حق الحياة - تتزوجون وتنجبون مثلنا تماماً ، وأولادكم يتمتعون بالحياة والعيش على أرض هذا الوطن كأولادنا نحن السادة ... لابد أن تعلموا أشياءً هامةً ، لتراعوها تماما في تعاملكم معنا.. 
هذه نصائح غالية ، لن يقدمها لك شخصٌ آخر ، لأنها حقائق في عُرف وقانون هذا البلد .. تحكم العلاقة بيننا نحن السادة وبينكم من العامة والدهماء ، افتح أذنيك جيدا لتسمعني- يمسك أذني ويشدها ناحيته في غيظ ليقرِّبني إليه قائلاً:
 لابد أن يَعُضُّكم الجوع أنتم وأولادكم لنشبع نحن وأولادنا .. لابد أن تعيشوا عراةً أو ترتدوا الخيش لنلبس نحن وننعم بالحرير وفاخر الثياب .. 
ترتعدون من البرد لنشعر بالدفء ... تخافون لنشعر بالأمان ، تجبنون لنبقى شجعان ، تقاتلون لننتصر..  تموتون عبيداً لنحيا سادةً عظماء ، هل فهمت ..؟ 
-  أقسم أني لا أعلم شيئاً عمّ تتحدث ، ولماذا تقول لي كل ذلك ، فالوطن ملكٌ لنا جميعا ، ونحن كلنا على أرضه سواء ..
-       يزداد تعصبا وضيقاً .. يزعق بأعلى صوته :
    خذوه إلى الجحيم حتى يعلم ماذا فعل ، وضد من يعترض ويتحدى ، وعمَّ أتحدث بالضبط ؟  يبدو أنه لا يعي شيئاً ، فالغباء يمتلك عقله ، لذا لا يستطيع التمييز أو حتى مجرد فهم الحقائق التي تتضح أمام عينيه 
ساطعة سطوع شمس الظهيرة .. ؟    
هيّا جُرّوه على الأرض .. وضعوه في غرفةٍ مظلمة، أرضها مليئة بالماء القذر ثلاثة أيامٍ كاملة .. 
شربة ماء واحدة طوال اليوم ، وقطعة من الخبز الناشف ، ودعوه معصوب العينين طيلة الوقت ، لا تأخذكم به رحمة ولا شفقة .. فليذق طعم جحيم السادة هيّا خذوووه ..
أعادوا العصابة السوداء إلى عينيه ، دفعوه إلى زنزانته ثانيةً ، أذاقوه ألوان العذاب.. مزَّقوا ملابسه ونسلوا جلده بالسياط ، وحرقوا جسده بالنار ، هتكوا آدميته بكل الصور، وأهانوه بكل الطرق...
 أجبروه على الاعتراف بأشياءٍ كثيرةٍ لم يفعلها ، ولم ولن يفكر أن يقترب منها في يومٍ من الأيام ، وقّع على أقوالٍ لم ينبس بحرفٍ منها ، ولم يسمع بها من قبل ..
في نهاية اليوم الثالث - أجروا تحريّاتهم ، فاكتشفوا خطأهم .. قرّروا الإفراج عنه ظهر اليوم الرابع دون اعتذار ...
اقتادوه ثانيةً إلى مكتب الباشا الذي قال كلاماً كثيراً هو لا يذكر منه حرفاً ، عصبوا عينيه ، حملوه فاقد الوعي من كثرة الضرب ، وضعوه في عربةٍ سوداء .. ألقته على أول الشارع الذي يقطنه ، ثم انطلقت ..
 هب الناسُ إليه .. فكّوا عصابته .. تأملوا وجهه جيدا.. عرفوه - إنه " حور محب " الشاب الطيب الذي عهدوا مساعدته للجميع في شتى المناسبات ، إنهم يحبونه كثيراً ويحبهم ، ليس له عداوات من أي إنسان ، أو ضغائن من أي بشر في أي مكان ..
أسرعوا بإفاقته ، يفتح عينيه في بطءٍ شديد .. حاولوا سؤاله عما حدث له ، لكنه أبداً لم يستطع الرد .. الجميع في الشارع والبيوت يتعجبون ويستفسرون عما حدث    لـ "حور محب " الشاب الملتزم المتواضع ، لكنه لا يجيب ، ولا تفسير لما حدث له ، ليته يعرف كي يخبرهم .. من الذي فعل به كل ذلك .. من يا ترى ، وما السبب ..؟ 
أخذوا يضربون أخماساً في أسداس ، بينما هو في عالمٍ آخر ولا يقوى على الرد .. فهو لم يرَ النومَ طيلةَ ثلاث ليالٍ ماضية ، فأين السرير.. ؟ 
حملوه إلى منزله ، أسرعت أمه إليه في هلع شديدٍ، تشهق ضاربة صدرها بكلتا يديها ، تستفسر عمَّ أصابه ، أين كان طيلة هذه الأيام ؟ 
 وماذا حدث له بالضبط ..؟
هو لم يفعلها من قبل ، فما الذي جرى ..؟
بينما تقف أختاه ملتصقتان معاً رعباً وهلعاً على أخيهما الوحيد .. تضمه أمه إلى صدرها ، وهي لا تدري سبباً لما حدث لابنها الوحيد ، فهو كل ما خرجت به من الدنيا على حد قولها ..
فمن آذاك بهذه الطريقة البشعة يا قرة عينيّ ، وعمري كله......؟ 
حسبي الله ونعم الوكيل قالتها أمه بحرقةٍ ، وهي تضمه باكيةً ؛ توجهت بذات الأسئلة الكثيرة التي تدور بعقلها نحو من أحضروه ، لكنهم لا يعلمون شيئاً ليخبروها به ... تركوه ليستريح وخرجوا محزونين ..
أخذت تبحث في جسده ، فربما حدث له مكروه .. يصرخ كلما لامست يدها جرحا ، وتصرخ كلما لامست يدها تورماً ، تشهق بشدة حينما ترى الكدمات الزرق تنتشر على جسده ..  
قبَّلت جبهته السمراء في حُنُوٍ، ثم قالت في تحدٍ مغلفٍ بالغيظ والألم معا :
أخبرني يا بُنيّ بالله عليك - ماذا حدث..؟ ومن فعل بك كل هذا ؟  وأنا أقسم أني سأنتقم لك ، وآخذ حقك بيدي ، وأمزقه بأسناني إرباً..  
نظر إليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع ، ربت على كتفها، مسح دمعته الهاربة على خده .. اعتدل في صعوبةٍ بالغةٍ محاولاً الوقوف مستندا عليها ، ثم أمسك كتفيها بين يديه ، غاص بنظرته الواهنة في عينيها الباكية ، سألها معاتباً :
لماذا أسميتني " حور محب " يا أمي ، أولم تجدي اسماً آخر...؟
-       جَدُكَ يا ولدي من أسماك بهذا الاسم ..
-       ولماذا... ؟
-       لأننا من نسل هذه الأسرة الفرعونية العظيمة ..
-       عظيمة .. أي عظمة تلك ... ؟
-       عظمة أجدادك القدماء ..
-       لماذا وافقتِ على تسميتي هذه يا أمي ؟
-       وافقت وأنا فخورة بذلك يا بُنَيّ ..
-       إذن أنتِ من فعل بي كل هذا ..!!
-       أنا .. كيف يا ولدي ..
 أخبرني عن مقصدك ؟!!
يشيح بوجهه بعيداً .. يتركها حائرة ، يدخل حجرته، يغلق الباب خلفه ، يرتمي على سريره بملابسه الرثة ، حتى أنه لم يخلع حذاؤه ..
يُغمِضُ عينيه .. يروح يفكِّر فيما سيفعله بعد أن فُصِل من عمله ظلماً ، بسبب طول لسانه على حد زعمهم ، واتجاهاته السياسية المعارضة للسادة أصحاب الحظوة .. مع أنه لم يفعل ذلك طيلة عمره .. فما ذنب أمه وأختيه ؟ 
يا ترى ماذا سيكون في الأيام التالية ؟ 
من أين ننفق وكيف نعيـش؟ 
هل سأجد عملا آخر أم لا ..؟
وهل سيتركونني في حالي..؟
وماذا لو ذهبت إلى المحكمة لأغيِّر اسمي إلى أي اسم آخر بعيدا عن اسم الفرعون المشاغب ..؟  
يحل الظلام كثيفاً ، تشتد العاصفة الترابية ، تدور به الدنيا سريعاً ، تَلُفُّه مع كل شئ يحيطه ، فيختلط في المفرمة مع أثاث غرفته ، تدخل عليه مجموعة الحرس كي تعيد تعذيبه مرة ً أخرى .. يحاول التملص فلا يستطيع ، يقتربون أكثر ، لكن قدماه تسمرتا بالأرض ، وانكتمت صرخاته في حلقه ، فلم يسمعه أحد ..
 أطبقوا عليه بإحكام .. يقيدونه بسلاسل حديديةٍ طويلةً وغليظة ، بدءاً من أخمص قدميه ، يلفونها حوله حتى أسفل ذقنه ... بينما يصرخ حين ينطلق صوته في جوفه إلى كل العالم ، محاولا المقاومة بلا فائدة ..
 فقط ينقذه صوت المنادي الجهور ، يخترق عليه كابوسه المهين .. يعلن : 
أنه عند احتضار النهار.. سيعقد الفرعون         الإله - اجتماعا هاماً بالقاعة الكبرى بالمعبد الملكي المقدس.. عليكم بالحضور على عجل ، ومن يتخلف عليه العاقبة وغضبة الإله …!
***
" حور محب" يعصى الملك الإله 
***
مظلمة في موكب الفرعون الإله
الاجتماع وثورة الفرعون الإله 
القوى العظمى والغجرية الشجاعة
أعلنت القوة العظمى لعالمنا المعاصر: 
عودة اللصوص ، واللص قوةٌ عظمى
" تمـــــــت "
د/ ثروت عكاشة السنوسي
عضو اتحاد كتاب مصر